فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إلا الذين عاهدتم من المشركين} قال: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي الله زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، فأمر الله نبيه أن يوفي لهم بعهدهم هذا إلى مدتهم.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن عباد بن جعفر في قوله: {إلا الذين عاهدتم من المشركين} قال: هم بنو خزيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {ثم لم ينقصوكم شيئًا...} الآية. قال: فإن نقض المشركون عهدهم وظاهروا عدوًّا فلا عهد لهم، وإن أوفوا بعهدهم الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يظاهروا عليه فقد أمر أن يؤدي إليهم عهدهم ويفي به.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} قال: كان لبني مدلج وخزاعة عهد، فهو الذي قال الله: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم}.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه في قوله: {إلا الذين عاهدتم من المشركين} قال: هؤلاء بنو ضمرة وبنو مدلج حيان من بني كنانة، كانوا حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العسرة من بني تبيع {ثم لم ينقصوكم شيئًا} ثم لم ينقضوا عهدكم بغدر {ولم يظاهروا} عدوّكم عليكم {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} يقول: أجلهم الذي شرطتم لهم: {إن الله يحب المتقين} يقول: الذين يتقون الله تعالى فيما حرم عليهم فيفون بالعهد: قال: فلم يعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الآيات أحد. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين}
في هذا الاستثناء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه استثناءٌ منقطعٌ، والتقديرُ: لكن الذين عاهدتم فأتمُّوا إليهم عهدهم، وإلى هذا نحا الزَّمخشري، فإنه قال: فإن قلت: ممَّا استثنى قوله: {إلاَّ الذينَ عاهَدتُّم}؟ قلت: وجهه أن يكون مستثنى من قوله: {فسيحُوا في الأرضِ}؛ لأنَّ الكلام خطابٌ للمسلمين ومعناه: براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم: سِيحُوا إلاَّ الذين عاهدتم منهم، ثُمَّ لَمْ ينقصوا فأتموا إليهم عهدهم، والاستثناءُ بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في النَّاكثين، ولكن الذين لم ينكثوا، فأتمُّوا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم.
الثاني: أنَّه استثناءٌ متصلٌ، وقبلهُ جملةٌ محذوفة، تقديره: اقتلوا المشركين المعاهدين إلاَّ الذين عاهدتم، وفيه ضعفٌ؛ قاله الزَّجَّاجُ، فإنَّه قال: إنَّه عائد إلى قوله: {براءةٌ} والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلاَّ الذين لم ينقضوا العهد.
الثالث: أنَّه مبتدأ، والخبر قوله: {فأتمُّوا إليهِمْ} قاله أبو البقاءِ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الفاء تزاد في غير موضعها، إذ المبتدأ لا يشبه الشَّرط؛ لأنَّه لأناسٍ بأعيانهم، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش، إذ يُجوِّز زيادتها مطلقًا، والأولى أنَّهُ منقطعٌ، لأنَّا لو جعلناهُ متصلًا مستثنى من المشركين في أوَّل السُّورة، لأدَّى إلى الفصل بين المستثنى، والمستثنى منه بجملٍ كثيرة.
قوله: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا}
الجمهور {يَنقصُوكُم} بالصَّاد المهملة، وهو يتعدَّى لواحدٍ، ولاثنين، ويجوزُ ذلك فيه هنا فكُمْ مفعولٌ أول، و{شَيْئًا} إمَّا مفعول ثان، وإمَّا مصدرٌ، أي: شيئًا من النقصان، أو: لا قليلًا، ولا كثيرًا من النقصان.
وقرأ عطاءُ بن السائب الكوفي وعكرمة وابن السَّمَيْفع وأبو زيد {يَنقُضُوكم} بالضَّاد المعجمة وهي على حذف مضاف، أي: ينقضُوا عهدكم، فحذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه.
قال الكرمانيُّ: وهي مناسبة لذكر العهد.
أي: إنَّ النقضَ يُطابق العهد، وهي قريبة من قراءة العامَّة، فإنَّ من نقض العهد فقد نقص من المدة، إلاَّ أنَّ قراءة العامة أوقعُ لمقابلها التمام. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}
منْ وَفَّى الحقَّ في عقدِه فَزِدْه على حفظِ عهدهِ؛ إذ لا يستوي مَنْ وفَّاه ومنْ جفاه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (5):

قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قرر أمر البراءة إثباتًا ونفيًا، أمر بما يصنع بعد ما ضربه لهم من الأجل فقال: {فإذا} أي فتسبب عن ذلك أنه إذا {انسلخ} أي انقضى وانجرد وخرج ومضى {الأشهر الحرم} أي التي حرمت عليكم فيها قتالهم وضربتها أجلًا لسياحتهم، والتعريف فيها مثله {كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا فعصى فرعون الرسول} [المزمل: 15-16] {فاقتلوا المشركين} أي الناكثين الذين ضربتم لهم هذا الأجل إحسانًا وكرمًا؛ قال البغوي: قال الحسن بن الفضل: هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء- انتهى.
ومعنى {حيث وجدتموهم} أي في حل أو حرم في شهر حرام أو غيره {وخذوهم} أي بالأسر {واحصروهم} أي بالحبس عن إتيان المسجد والتصرف في بلاد الإسلام وكل مقصد {واقعدوا لهم} أي لأجلهم خاصة فإن ذلك من أفضل العبادات {كل مرصد} أي ارصدوهم وخذوهم بكل طريق يمكن ولو على غرة أو اغتيالًا من غير دعوة، وانتصابه على الظرف لأن معنى اقعدوا لهم: ارصدوهم، ومتى كان العامل في الظرف المختص عاملًا من لفظه أو من معناه جاز أن يصل إليه بغير واسطة في فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه فكذلك إلى الظرف- ذكره أبو حيان، والتعبير بالقعود للارشاد إلى التأني، وفي الترصد والاستقرار والتمكن وإيصال الفعل إلى الظرف إشارة إلى أن يشغلوا في الترصد كل جزء من أجزاء كل مرصد إن قدروا على ذلك بخلاف ما لو عبر بفي فإنه إنما يدل على شغل كل مرصد الصادق بالكون في موضع واحد منه أيّ موضع كان.
ولما أمر تعالى بالتضييق عليهم، بين ما يوجب الكف عنهم فقال: {فإن تابوا} أي عن الكفر {وأقاموا} أي وصدقوا دعواهم التوبة بالبينه العادلة بأن أقاموا {الصلاة وآتوا الزكاة} أي فوصلوا ما بينهم وبين الخالق وما بينهم وبين الخلائق خضوعًا لله تعالى وتركًا للفساد ومباشرة للصلاح على الوجه الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد هذان الشاهدان العدلان {فخلوا} أي بسبب ذلك {سبيلهم} أي بأن لا تعرضوا لشيء مما تقدم لأن الله يقبل ذلك منهم ويغفر لهم ما سلف {إن} أي لأن {الله} أي الذي له الجلال والإكرام {غفور رحيم} أي بليغ المحو للذنوب التي تاب صاحبها عنها والاتباع له بالإكرام. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال الليث: يقال: سلخت الشهر إذا خرجت منه، وكشف أبو الهيثم عن هذا المعنى فقال: يقال: أهللنا هلال شهر كذا، أي دخلنا فيه ولبسناه، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباسًا منه، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءًا فجزءًا، حتى نسلخه عن أنفسنا وأنشد:
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله ** كفى قائلًا سلخي الشهور وإهلالي

وأقول تمام البيان فيه أن الزمان محيط بالشيء وظرف له، كما أن المكان محيط به وظرف له ومكان الشيء عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر ومن الجسم المحوي فإذا انسلخ الشيء من جلده فقد انفصل من السطح الباطن من ذلك الجلد وذلك السطح، وهو مكانه في الحقيقة فكذلك إذا تم الشهر فقد انفصل عن إحاطة ذلك الشهر به، ودخل في شهر آخر، والسلخ اسم لانفصال الشيء عن مكانه المعين، فجعل أيضًا اسمًا لانفصاله عن زمانه المعين، لما بين المكان والزمان من المناسبة التامة الشديدة.
وأما الأشهر الحرم فقد فسرناها في قوله: {فَسِيحُواْ في الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] وهي يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، والمراد من كونها حرمًا، أن الله حرم القتل والقتال فيها.
ثم إنه تعالى عند انقضاء هذه الأشهر الحرم أذن في أربعة أشياء:
أولها: قوله: {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [النساء: 89] وذلك أمر بقتلهم على الإطلاق، في أي وقت، وأي مكان.
وثانيها: قوله: {وَخُذُوهُمْ} أي بالأسر، والأخيذ الأسير.
وثالثها: قوله: {واحصروهم} معنى الحصر المنع من الخروج من محيط.
قال ابن عباس: يريد إن تحصنوا فاحصروهم.
وقال الفراء: حصرهم أن يمنعوا من البيت الحرام.
ورابعها: قوله تعالى: {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم: رصدت فلانًا أرصده إذا ترقبته، قال المفسرون: المعنى اقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى الصحراء أو إلى التجارة، قال الأخفش في الكلام محذوف والتقدير: اقعدوا لهم على كل مرصد.
ثم قال تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: [في قتل تارك الصلاة]

احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أن تارك الصلاة يقتل، قال لأنه تعالى أباح دماء الكفار مطلقًا بجميع الطرق، ثم حرمها عند مجموع هذه الثلاثة، وهي التوبة عن الكفر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فعندما لم يوجد هذا المجموع، وجب أن يبقى إباحة الدم على الأصل.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يكون المراد الإقرار بهما واعتقاد وجوبهما؟ والدليل عليه أن تارك الزكاة لا يقتل.
أجابوا عنه: بأن ما ذكرتم عدول عن الظاهر، وأما في تارك الزكاة فقد دخله التخصيص.
فإن قالوا: لم كان حمل التخصيص أولى من حمل الكلام على اعتقاد وجوب الصلاة والزكاة؟
قلنا: لأنه ثبت في أصول الفقه أنه مهما وقع التعارض بين المجاز وبين التخصيص، فالتخصيص أولى بالحمل.

.المسألة الثانية: [في مانعي الزكاة]:

نقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول: في مانعي الزكاة لا أفرق بين ما جمع الله، ولعل مراده كان هذه الآية، لأنه تعالى لم يأمر بتخلية سبيلهم إلا لمن تاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فأوجب مقاتلة أهل الردة لما امتنعوا من الزكاة وهذا بين إن جحدوا وجوبها أما إن أقروا بوجوبها وامتنعوا من الدفع إليه خاصة، فمن الجائز أنه كان يذهب إلى وجوب مقاتلتهم من حيث امتنعوا من دفع الزكاة إلى الإمام.
وقد كان مذهبه أن ذلك معلوم من دين الرسول عليه السلام كما يعلم سائر الشرائع الظاهرة.

.المسألة الثالثة: [في حقيقة التوبة]:

قد تكلمنا في حقيقة التوبة في سورة البقرة في قوله: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] روى الحسن أن أسيرًا نادى بحيث يسمع الرسول أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد ثلاثًا، فقال عليه السلام: عرف الحق لأهله فأرسلوه.

.المسألة الرابعة: قوله: {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}:

قيل إلى البيت الحرام، وقيل إلى التصرف في مهماتهم {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن تاب وآمن.
وفيه لطيفة وهو أنه تعالى ضيق عليهم جميع الخيرات وألقاهم في جميع الآفات، ثم بين أنهم لو تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فقد تخلصوا عن كل تلك الآفات في الدنيا، فنرجو من فضل الله أن يكون الأمر كذلك يوم القيامة أيضًا فالتوبة عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل، والصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي، وذلك يدل على أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى. اهـ.